فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ أَنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ، وَمِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِنَاظِرٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحُجْبَةَ وَاقِعَةٌ مِنْ الْخَلْقِ شَرْعًا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ الْمَحْجُورُ مِنْ الْمُطْلَقِ، وَالْمَحْظُورُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
ثُمَّ قَالَ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، فَاسْتَثْنَى مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مِنْ الْمَحْجُورِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ وَغْدًا، أَوْ ذَا مَنْظَرَةٍ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْحُجْبَةِ عَلَى صِفَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا عَبْدٌ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا أَمَةٌ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}: فَذَكَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعِنْدَ الظَّهِيرَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهِ التَّصَرُّفُ بِخِلَافِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَةٍ، وَلَكِنْ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُسْتَغْرِقٌ بِنَوْمِهِ، وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَوْقَاتُ خَلْوَةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَنُهُوا عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنِ لِئَلَّا يُصَادِفُوا مَنْظَرَةً مَكْرُوهَةً.
وَفِي الصَّحِيحِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي كَذَا وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «لَا أَدْخُلُ».
وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْآثَارِ التَّفْسِيرِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ فِي الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَأَيْقَظَهُ بِسُرْعَةٍ، فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ؛ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْغُلَامُ؛ فَحَزِنَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ: وَدِدْت أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ نَهَى عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إلَّا بِإِذْنِنَا.
ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: {صَلَاةِ الْعِشَاءِ} الَّتِي يَدْعُوهَا النَّاسُ الْعَتَمَةَ: وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ».
قَالَ: وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ الْعِشَاءَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْعِشَاءَ الْعَتَمَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ.
وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَمَةِ.
وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ: الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ يَدُلُّ عَلَى الْعِشَاءِ الْأُولَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ»؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ.
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ بِالتَّارِيخِ، لَكِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ بِذَاتِهِ يُبَيِّنُ وَقْتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً، وَعَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً ثَابِتٌ؛ فَلَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ فَقَدْ أَثِمَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} فَاَللَّهُ سَمَّاهَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا بِهِ اللَّهُ، وَيُعَلِّمُهَا الْإِنْسَانُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَا يَقُلْ عَتَمَةً إلَّا عِنْدَ خِطَابِ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ: وَكَانَ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيفٍ يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ}: الْعَوْرَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَانِعَ دُونَهُ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أَيْ سَهْلَةُ الْمَدْخَلِ، لَا مَانِعَ دُونَهَا، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِذْنِ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ فِي حَالِ الْعَوْرَةِ، فَتَعَيَّنَ امْتِثَالُهُ، وَتَعَذَّرَ نَسْخُهُ، ثُمَّ رُفِعَ الْجُنَاحُ بَعْدَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَيْلُ بِالْعِتَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى الْفَاعِلِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْحَالَةَ الْأَهْلِيَّةَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}: أَيْ مُتَرَدِّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَمَا لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُ مِنْهُمْ؛ فَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ ذَلِكَ، وَزَالَ الْمَانِعُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ حِينَ أَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ».
وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ سُؤْرِهَا فِي مُبَاشَرَتِهَا النَّجَاسَةَ وَحَمْلِهَا أَبَدًا عَلَى الطَّهَارَةِ، إلَّا أَنْ يَرَى فِي فَمِهَا أَذًى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَقَوْلُهُ: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يُرِيدُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِئْذَانُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا ارْتَفَعَ الْجُنَاحُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ لَكُمْ، وَمِنْكُمْ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ} الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ الْآيَاتِ الدَّالَّهَ عَلَى الْمُعْجِزَةِ وَالتَّوْحِيدِ، كَمَا يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، وَمَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ، وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا وَفَخِذِي مُنْكَشِفَةٌ، فَقَالَ: «خَمِّرْ عَلَيْك، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ»، وَقَدْ غَطَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ عُثْمَانَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً مِنْ جِهَتِهِ الَّتِي جَلَسَ مِنْهَا.
وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ».
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرْهَدًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَرِيضًا، وَلَيْسَ الْفَخِذُ عَوْرَةً.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ قَوْلَهُ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فَكَانَ الطِّفْلُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحُجْبَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَوْرَةِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الطِّفْلَ إذَا ظَهَرَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَهُوَ بِالْبُلُوغِ، يَسْتَأْذِنُ، وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} كَافِيًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى طِفْلٌ بِصِفَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى الْحَجْرِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زِيَادَةَ بَيَانٍ؛ لِإِبَانَةِ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ}: جَمْعُ قَاعِدٍ بِغَيْرِ هَاءٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
وَهُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْحَيْضِ وَعَنْ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ فِيهِنَّ رَغْبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ الْقَلْبُ فِي نِكَاحٍ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ بِخِلَافِ الشَّبَابِ مِنْهُنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} فِيهِ قَوْلَان:
أحدهما: جِلْبَابَهُنَّ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوْ الْمِقْنَعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ تَضَعُهُ عَنْهَا إذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الثِّيَابِ.
وَالثَّانِي: تَضَعُ خِمَارَهَا، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبِ أَوْ جِدَارٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَعْنِي وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْرُ مُظْهِرَاتٍ لِمَا يُتَطَلَّعُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزْيِينِ لِلنَّظَرِ إلَيْهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ لِانْصِرَافِ النُّفُوسِ عَنْهُنَّ، وَلَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِلِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «رُبَّ نِسَاءٍ كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا».
وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَاتٍ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِعَارِيَّاتٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا رَقَّ يَكْشِفُهُنَّ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ. اهـ.

.قال الماوردي:

ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} يعني الرجال.
قوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن. قال ابن قتيبة: بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود. وقال زمعة: لا تراد، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه. قال الشاعر:
فلو أن ما في بطنه بين نسوة ** حبلن ولو كان القواعد عقرًا

وقوله: {الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحًا} أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} فيه قولان:
أحدهما: جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير.
الثاني: خمارها ورداؤها، قاله جابر بن زيد.
{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور. وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن. والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن. وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ».
{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
المعنى أن {الأطفال} أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة وأبيح لهم الأمر في غير ذلك من الأوقات، ثم أمرتعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا {الحلم} على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت وهذا بيان من الله عز وجل، وقوله: {والقواعد} يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد. وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن.
وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن، وقرأ ابن مسعود {أن يضعن من ثيابهن} وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضًا {من جلابيبهن} والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة، فرب عجوز يبدوا منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، والتبرج طلب البدو والظهور إلخ.... والظهور للعيون ومنه {بروج مشيدة} [النساء: 78] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود {وأن يعففن} بغير سين، ثم ذكر تعالى {سيمع} لما يقول كل قائل وقائلة، {عليم} بمقصد كل أحد في قوله، وفي هاتين الصفتين توعد، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته. اهـ.